مقدمة:
هناك شريحة من أبناء هذا الوطن الغالي سحقت على مدى عقود متتالية من الزمن، وبعد سنين طويلة من الخدمة التي يقدمونها يزحف التقاعد إلى حياتهم كشبحٍٍ يقضّ سريرتهم ويملأ أفكارهم بتساؤلات غائية عن طبيعة المستقبل ، لكن رد الفعل يختلف ما بين إنسان وآخر تبعاً لخصائص شخصيته ، فيدخل إلى عالم آخر مليء بالراحة أو الألم أو الفراغ ؛ فإن إحالة الشخص إلى التقاعد ، يشعره بتدني قيمته الاجتماعية والمعنوية ، لكون العمل في حد ذاته يعطي للشخص قيمة ومكانة اجتماعية ، تضمن احترام الآخرين له واستقلاله المادي عنهم . وأن العمل عموما يمنح إطاراً لحياة الشخص، والتقاعد يسحق هذا الإطار الذي يعتبر النظام اليومي أو النهج الذي يسير عليه الشخص أثناء مزاولة عمله.
فبلوغ الإنسان سن التقاعد له تأثيرات سلبية على حياته الجسدية والنفسية والاجتماعية ، وذلك لارتباط هذه المرحلة بوصول الشخص إلى سن الشيخوخة ، التي قد لا تسمح له من الناحية الجسمية بالحيوية نفسها والعطاء الذي كان عليهما من قبل ، ويشعر بالضعف الجسدي ، وفقدان النشاط البدني ، يضاف إلى ذلك عجزه عن التقاط المعلومات بالسرعة المطلوبة ، وحفظها بالذاكرة كما هو الشأن في فترة الطفولة أو الشباب ، ويحدث تراجع في عمل الذاكرة الفورية أو الآنية عند المتقدم في السن ، بحيث تنقص لديه القدرة على تذكر الأحداث التي جرت في الماضي القريب ، في مقابل احتفاظه بالقدرة الكبيرة على تذكر كل الأحداث وذكريات السنوات الغابرة ، والتي تعود إلى سن الطفولة ، وذلك بسبب التغيرات الدماغية التي تحصل له خلال هذه المرحلة العمرية .
كما أن الشعور السائد لدى الشخص المتقاعد هو الاهتمام بالماضي، والتوجه إلى ما هو روحاني بشكل كبير ولافت للانتباه ، بحيث يصبح الشخص في الغالب أكثر تعبداً من السابق وأكثر تشبثاً بمعتقداته الدينية ، مع ذكره لحدث الموت بشكل متواصل ، ويفسر ذلك إحساسه بقرب نهاية حياته الدنيوية ، لذا يزداد الارتباط العاطفي للمتقدم في السن بعائلته لخوفه من الموت والوحدة والعزلة .
والتأكيد على الاهتمام بفئة المتقاعدين يأتي لعدة أمور في مقدمتها تزايد نسبة كبار السن في كل المجتمعات المتقدمة والنامية بوجه عام ، حيث بلغ عدد الأشخاص الذين بلغوا سن 60 سنة فأكثر على مستوى العالم عام 2000م حوالي 590 مليون نسمة ، ويحتمل أن يصل هذا العدد إلى حوالي 976 مليون نسمة عام 2020م ، فالحاجة باتت ماسة إلى مزيد من التعليم والتعلم حول علم الشيخوخة الاجتماعي ، وذلك انطلاقاً من مسلمة مؤداها أن الأساليب والنظريات البيولوجية لم تعد كافية وحدها لفهم طبيعة وخصائص هذه المرحلة العمرية ، فالأمر في حاجة إلى تكوين أساس علمي منظم ترتكز عليه الدراسات الاجتماعية والنفسية لفهم ظاهرة التقدم في العمر والآثار المصاحبة لذلك السن . وأهم الآثار الاجتماعية المصاحبة للتقاعد من فقدان أو ضعف العلاقات الاجتماعية؛ فعندما كان الشخص على رأس العمل كان يتمتع بعلاقات اجتماعية مرتبطة بالمنصب أو الوظيفة التي كان يشغلها ، ومن بين الآثار أيضاً فقدان العديد من الأنشطة والاهتمامات ، باعتبار أن الشغل الذي كان يمارسه هو شغله الشاغل حتى في أوقات الراحة وخارج نطاق العمل . كما أنه قد يصاحب التقاعد العديد من المشكلات والتي منها العزلة وزيادة وقت الفراغ وانخفاض الدخل الشهري والإصابة ببعض الأمراض الجسمية والنفسية، والاعتماد على الآخرين.
واستخدام الإرشاد بالمعنى في خفض بعض الاضطرابات النفسية لدى الفرد المتقاعد من الأساليب الفعالة في تحسين صحته النفسية
حيث اشتق هذا الأسلوب الإرشادي من العلاج بالمعنى Logo Therapy وهو منحى علاجي يقصد به التعامل مع الظواهر النفسية من خلال المعنى Through Meaning، ويركز هذا المنحى على معنى الوجود الإنساني، بالإضافة إلى بحث الإنسان عن هذا المعنى، وكلمة Logo الإغريقية تعنى المعنى، وتعنى أيضاً الروحانية Spiritual أو الناحية المعنوية، حيث أنهما يمثلان بعداً هاماً في الوجود الإنساني، وأن المهمة الأساسية للعلاج بالمعنى هو التركيز على البعد الروحاني أو المعنوي للإنسان.
والعلاج بالمعنى من العلاجات النفسية التي تستند إلى الاتجاه الفينومينولوجى Phenomenology في علم النفس، والذي يرفض الإسراف في النزعة الطبيعية عند تناول الظاهرة الإنسانية ، ومحاولة تفسيرها على أساس من العلل والأسباب النشوئية ، كما أن المهمة الأساسية للإنسان هي تحقيق المعنى وليس مجرد إشباع الغرائز ، وأن إرادة المعنى يمكن رصدها من خلال الفعل والخبرة كمعايشة شخص أو عمل ما .
ويعتبر” فيكتور إميل فرانكل “Victor E. Frankl النمساوي الجنسية ، مؤسس معالم هذا العلاج ، وهى المدرسة النمساوية الثالثة ، أما المدرسة النمساوية الأولى فهي مدرسة ” فرويد “Freud, S. ، والثانية هي مدرسـة ” آدلر ” Adler ،
وقـد اعتقل ” فرانكل ” خلال الفترة من (1942) إلى (1945) على يد الألمان النازيين ، وقد قتل كل من أبيه وأمه وأخيه وزوجته في غرف الغاز ، ومـن هـذه المعـاناة استطاع ” فرانكل ” وضع أسس ومعالم العلاج بالمعنى.
ويهدف الإرشاد بالمعنى لدى الفرد المتقاعد إلى اكتشاف معاني الحياة ،
وذلك مرتبط بتوسيع حيز الوعي لديه ؛ وعلينا أن ندرك أن معنى الحياة ليس عاماً أو مشتركاً بين سائر البشر ، وإنما على كل إنسان أن يكتشف المعنى الخاص به ، والذي يعتبره مرتبطاً بالقيم التي يؤمن بها ، لذا يهدف المعالج الذي يستخدم هذا المنحى العلاجي إلى مساعدة الشخص على اكتشاف المعاني التي تنطوي عليها حياته والتي قد لا يكون على وعي كاف بها ، خاصة تلك المعاني الأصيلة Authentic Meanings ، أو التي يقوم الشخص فيها بدور ابتكاري أصيل ،
وأن يدرك أيضاً أن مصيره بيده ، وعليه أن يواجه حياته من خلال اختياراته الحرة ، كما أنه مسئول عن كل ما وصل إليه من نجاح أو فشل في الحياة ، ويعيد علاقته بعالمه ، وذلك باكتشاف كينـونته.
وهذا المنحي الإرشادي/ العلاجي له فعالية لدى بعض من المتقاعدين الذين فقدوا السيطرة على دفة حياتهم نتيجة هبوط معنوياتهم وشعورهم بالملل والضجر ، والتي زادت مساحتها في حياة الإنسان المعاصر ، حيث يستشعر خيبة الأمل في عالم سيطرت عليه الأنانية والتنافس غير الشريف ، والتطلعات المادية التي طغت على مشاعر الإنسان وعلى قيمه الأخلاقية والروحية ؛ من هنا تأتى أهمية استخدام هذا المنحى الإرشادي / العلاجي بالمعنى لأنه يتضمن بعداً إنسانياً فريداً هو البعد المعنوي للكائن البشرى ، وهذا البعد قد أغفلته كافة المدارس العلاجية على اختلاف توجهاتها ، وأيضاً تكمن أهمية هذا الاتجاه في إثارة نضال الفرد المتقاعد من أجل إيجاد معنى للحياة ، وإيضاح معنى وجوده من خلال تعميق فهمه لذاته بأن يسمو بها خلال توسيع إدراكه ليشمل الطموحات الإنسانية العليا .
ومن بين أهم أهداف الإرشاد بالمعنى للفرد المتقاعد أيضاً تحقيق الصحة النفسية لديه ، والتي تعني التوافق أو التكامل بين الوظائف الإنسانية المختلفة ، والقدرة على مواجهة الأزمات النفسية التي تطرأ عليه مع الإحساس الإيجابي بالسعادة ، والتكيف بين المتقاعد ونفسه ، وكذلك بينه وبين العالم الخارجي ، تكيفاً يؤدى إلى أقصى ما يمكن من الكفاية والسعادة للمجتمع الذي ينتمي إليه . والإجابة على معضلة كيف يعيش المتقاعد حياته بعد التقاعد ؟
وما هي الأجواء المحيطة بهذا الفرد الذي أفنى سنين عمره في الخدمة ؟ وما هي الخدمات والبرامج التي تقدمها أجهزة الدولة والمؤسسات المعنية لهم ؟ وأيضاً كيفية توفير التهيئة المناسبة لبلوغ سن التقاعد ؟ كل هذا يأتي عبر الانخراط في قنوات اجتماعية ينشط فيها المتقاعد وتمنحه فرصة جديدة لوضع إطار جديد لحياته خلال هذه المرحلة ، والاقتداء بتجارب الدول الأخرى في هذا الإطار ، وذلك من خلال تأسيس جمعيات مدنية للمتقاعدين ، وتوفير لهم مقرا للالتقاء تضمن لهم مزاولة أنشطة لها ارتباط بسنهم .
ويمكن الاستعانة ببعض الفنيات الإرشادية القائمة على المعنى لخفض بعض الاضطرابات النفسية لدى فئة المتقاعدين وبالتالي تحسين صحتهم النفسية والتي من بينها ما يلي :
* فنية منهج القصة الرمزية 0
يشير ” فرانكل ” مؤسس هذا المنحى الإرشادي / العلاجي إلى أن هذا الأسلوب وسيلة مفيدة مع بعض الأشخاص ، حيث يروى المرشد النفسي قصة توضح معنى معين قد يصعب التعبير عنه بشكل مباشر ، فمثلاً
قصة حبوب الخردل ، التي توضح معنى ارتباط الحياة الإنسانية بالمعاناة ،
حيث ولدت الهندية جوتا طفلاً ، لكنه مرض ومات ،
فشعرت بالحزن والأسى ، وحملت جثمانه وجابت به أنحاء المدينة ، فسخر الناس منها،
فلجأت إلى أحد الحكماء ، والذي أخبرها أن الدواء الوحيد هو أن تحضر حفنة من حبوب الخردل من أي منزل بالمدينة لا يكون أحد من أهله قد مرض أو عانى أو مات، فجابت المدينة من بيت إلى بيت ، إلا أنها لم تنجح في العثور على منزل لم يعانى فيه أحد أو يموت، من هنا أدركت أن أبنها لم يكن الوحيد الذي مرض ومات ، وأنها لم تكن الوحيدة التي عانت ، وأن المعاناة قانون سائد بين بني البشر.
* فنية تعميق الوعي بالموت.
وهى من الفنيات التي تؤكد على أهمية وقيمة الحياة ، وأن الموت في جميع جوانبه هو الحقيقة التي تجعل من اللحظة الراهنة شيء ذو قيمة ،
وقد عبر أحد المتقاعدين عن هذا الشأن بقوله ” أنا أعلم يقيناً شيئين
أولهما أنني سوف أموت في يوم ما،
وثانيها أنني حي الآن،
والسؤال الهام حقاً هو ماذا سأفعل فيما بين هذين الحدثين .
* المسرحيات النفسية القائمة على المعنىLogo drama.
وهى نوع من أساليب الإرشاد والعلاج الجماعي المتبع في العلاج بالمعنى ، ويقوم على أساس تخيل الماضي من الحياة بهدف تعزيز الإحساس بالمسئولية نحو الوجود الشخصي ، فمن خلال هذه الفنية يحكى كل شخص من المتقاعدين قصته مع الحياة ، وعن طريق الحوار المتبادل بين الأشخاص والمرشد بالمعنى يتضح المعنى بطريقة ارتجالية .
* الحوار السقراطي The Socratic Dialogue.
وهو أسلوب في الإرشاد بالمعنى يستخدم مع الفرد من أجل استثارة المعنى لديه بتوجيه أسئلة استفزازية في إطار حوار تساؤلي.
* فنية التركيز Focusing.
إن التركيز عملية يحدث فيها تواصل من نوع خاص مع الوعي الجسدي الداخلي ، هذا الوعي يمكن تسميته بالشعور المحسوس Felt Sense ، والإنسان يجب أن يتعلم كيف يستحضر هذا الشعور المحسوس من خلال الالتفات إلى داخل الجسد ، هذا الشعور هو إحساس الجسم بمشكلة أو موقف معين ، وهو ليس انفعالاً كالغضب أو الحزن أو السعادة ، وإنما هو شيء يحدث في البداية دون أن يلفت الانتباه ، فهو غير معروف وإن كان له معنى ، وعندما يتعلم الإنسان كيف يمر بخبرة التركيز ، فإنه يدرك أن الجسد له وسائله الخاصة في التعرف على مشكلات الإنسان وتقديم الحلول لها ، من هنا يأتي التركيز بالتغيير المطلوب .
* الشبكة العلاجية Network Therapy.
وهى من الفنيات الإرشادية / العلاجية التي يجب أن تستخدم كركيزة أساسية لتحقيق الأهداف المرجوة للبرامج العلاجية المختلفة ، وأنه من خلال هذه الفنية يجب تداخل الأهل والأقارب والأصدقاء في هذه العملية حتى يكون الإرشاد بالمعنى أكثر فاعلية ، وتكون نتائجه أسرع وذلك لإمداد المرشد النفسي بكثير من المعلومات عن الفرد المتقاعد طوال حياته ، وأيضاً المواقف والأحداث المختلفة التي تؤثر سلباً أو إيجاباً عليه ، وأيضاً ردود الأفعال المختلفة نحو هذه الأحداث
http://www.almostshar.com/web/Subject_Desc.php?Subject_Id=343&Cat_Subject_Id=71&Cat_Id=5
أزمة منتصف العمر
أولاً: مقدمة وتعريف تعرف ازمة منتصف العمر بانها المرحلة التى يمر بها الانسان ما بين 40 – 5…