الجسد والروح. من ينتصر؟

رسم أحد الفنانين لوحة فنية لنسر وقد غرس أظافره بجسد ثور محاولاً رفعه لأعلى، فرأى البعض اللوحة وكأنها تقول أن أرواحنا هي ذلك النسر الذي يحلق في السماء والثور هو جسدنا المنجذب إلى الأرض، فبينما النسر (الروح) يريد أن يعلو بالثور (الجسد) لأعلى إلا أنه يلقى مقاومة وصعوبة كبيرة لأن الثور مشدوداً إلى الأرض.

والسؤال المُحيّر:أيهما سينتصر؟

هل سينجح النسر في السمو لأعلى بالثور؟

أم سيفشل وسيحط به الثور لأسفل إلى الأرض؟

الغلبة لمن؟ للروح أم للجسد؟

هذه ذاتها هي القضية التي أولاها سيدنا المسيح له المجد الأهمية القصوى وهو في بستان جثسيماني، عندما وجد أن تلاميذه قد غلبهم النعاس فناموا وتركوه وحده يصلي وهو عالم بما سيأتي عليه فقال لهم معاتباً:

“. أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة” (مت 26:  40)

ثم ولأجل محبته القوية لهم ولأجل شفقته العظيمة عليهم ألتمس لهم العذر موصياً إياهم بالسهر والصلاة ثم أوضح لهم سبب ضعفهم وعدم قدرتهم على السهر فقال:

“أسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف” (مت 26:  41).

سبق لنا الإشارة إلى أهمية العناية بجسدنا وبضرورة أن نعطيه حاجته من الطعام والشراب والراحة والدفء، ولكن إلى أي مدى ينبغي علينا أن نهتم بجسدنا؟

يقول القديس موسى الأسود:

“الطريق الوسطى خلصت كثيرين”

بمعنى أن إهتمامنا بجسدنا يجب ألا يصل  إلى مرحلة المبالغة أو التدليل، لأن تدليل الجسد والإسراف في إطعامه وإراحته إنما سيؤديان به إلى التراخي والتهاون.

وهذا ما حذر الله به شعبه في القديم قبلما أدخلهم أرض الموعد قائلاً لهم:

“لئلا إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتا جيدة وسكنت. وكثرت بقرك وغنمك وكثرت لك الفضة والذهب وكثر كل ما لك. يرتفع قلبك وتنسى الرب إلهك الذي أخرجك من ارض مصر من بيت العبودية” (تث12:8-14).

ولقد كان لشعب الله سابقة في التهاون والخطأ كنتيجة للشبع وللتراخي كما جاء في سفر الخروج:

“. وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب” (خر  32 :  6).

ولهذا جاءت وصيته لهم في سفر التثنية بالحذر من تدليل الجسد بالإفراط في إطعامه أو في إراحته.

تأمل أحدهم حماره الذي كان يستخدمه في التنقل من مكان لآخر فقال:

“تعلمت من حماري درساً نافعاً لمن يريد التعلم، فكلما عاملته برقة وحنو أبطئ في المسير وعندما حنوت عليه أكثر توقف عن المسير وأخيراً برك (جلس) على الأرض، فأمسكت بالعصا وضربته ضربة واحدة فقام لوقته منتصباً ولما ضربته الثانية بدأ في معاودة المسير وبعد الثالثة طفر يجري بكل نشاط، هكذا جسدي كلما أسرفت في إراحته وفي تدليله فقدت سيطرتي عليه وصار عبئاً علىَّ، وكلما قسوت عليه قليلاً استطعت أن أتحكم به فيصير طوعي، فحماري هو جسدي الذي أمتطيه”.

وهنا يأتينا السؤال عما قاله القديس بولس الرسول:

 “بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً” (1كو  9 :  27) فما الذي كان يقصده الرسول هنا “بالقمع”؟

أجمل تشبيه لفكرة قمع الجسد “اللجام” الذي يُوضَع في فم الحصان، ما أهميته؟ ما عمله؟

إنه يمكّننا من التحكم في حركة الحصان فنستطيع قيادته تماماً كقول معلمنا القديس يعقوب الرسول:

“هوذا الخيل نضع اللجم في أفواهها لكي تطاوعنا فندير جسمها كله”

 (يع 3:  3)

فالقمع هنا يأتي بمعنى التحكم في الجسد من خلال السيطرة عليه فلا نعطيه كل ما يطلب بل فقط نمدَّه بكل ما هو ضروري لحياته.

والقمع ضروري في الحياة الروحية فبه نقوي الروح في صراعها ضد أهواء الجسد التي تشدّه للأرضيات، وهذا عينه ما عبّر عنه القديس بولس الرسول شارحاً ما يشعر به فقال:

فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ أي في جسدي شيء صالح لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد، لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل” (رو 7:  18و19)

ما أجمل وما أروع هذا التصوير الذي وضّح به القديس معلمنا بولس الرسول الصراع بين الجسد والروح، ولم يكتف بهذا الشرح بل حدد السبب وراء ذلك الصراع بقوله:

“لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون” (غل 5:  17)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

التربية الجنسية. متى؟ وكيف؟

التربية الجنسية. متى؟ وكيف؟   سؤال يردده بعض الآباء والأمهات: متى نبدأ في التربية الجنسية؟…